بقلم عبد الرحيم أريري: مدير نشر أسبوعية “الوطن الآن”
وأنا أتابع تداعيات قرار استقالة مصطفى المنوزي من المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف، استحضرت بعض مفارقات الحالة المغربية، إذ في الوقت الذي ينشغل الفاعلون السياسيون بالإعداد للوائح الترشيحات وتوزيع التزكيات وما يصاحبها من صراعات وترضيات، لاتزال ملفات حقوق الإنسان المتعلقة بالماضي والجارية حاليا ، في نظر الحقوقيين، تراوح مكانها على طاولة الحكومة والمجلس الوطني لحقوق الإنسان. الأمر الذي يجعلنا نتساءل: كيف يمكن الانتقال إلى صفحة جديدة دون طي سابقاتها؟
من هنا قيمة الرسائل التي تضمنها قرار الاستقالة، في سياق سياسي يحمل من عناصر الانطلاق والتوثب، بقدر ما يحمل من عناصر التراجع والانتكاس. ولولا معرفتي الشخصية برئيس المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف وصدق نواياه غير الانتهازية، لقلت إن في هذا القرار تحضيرا وتمهيدا للانخراط في مسلسل بديل. لكن حدسي قد تأكد فعلا، بعد أن اقتنعت معه بأن العنف المتبادل الرمزي واللفظي والمادي بين الأطراف في تصاعد مخيف، والحال أن فاتورة الخسارة الباهضة سيؤديها الوطن والمغاربة الباحثون لهم عن موقع في المواطنة، والذين لا حول ولا قوة لهم إزاء قواعد اللعبة التي تقصيهم من المشاركة الواعية في تدبير للشأن العام.
لم يعد الصمت ممكنا، ولذلك أقدر أن استقالة المنوزي قد دقت ناقوس الخطر لدى كل الفاعلين وصانعي القرار. الوطن لم يعد يحتمل تضخيم وإضافة ضحايا جدد إلى سجل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، والحاجة ملحة إلى سن تدابير وقرارات تضمن عدم تكرار مآسي الماضي الأسود، في نفس الوقت تبقى التوصيات الصادرة عن هيأة الإنصاف والمصالحة التي لم تنفذ، شاهدة على عدم استكمال شروط وبنود عقد المصالحة الوطنية.
ما الذي يحول إذن دون أن نكون على الموعد مع التاريخ، فنصفي إرث الماضي ونطهر سلوك الحاضر مما يلوثه، ونستجيب لنداءات الحقيقة والإنصاف والمصالحة؟ ولماذا لا ننخرط في ورش المستقبل منتصرين لعناصر الانطلاق والتوثب، والوطن زاخر بالخبراء في المجال، ومن بينهم مصطفى المنوزي نفسه، الخبير المعايش لا فقط على مستوى الكفاءة القانونية والحقوقية، أو التجربة الميدانية، ولكن أساسا لارتباطه الوثيق والمباشر، عائليا ونضاليا، بضحايا سنوات الرصاص وكافة العائلات المكلومة في أبنائها مجهولي المصير. إنه سليل الذاكرة المغربية الموشومة، الشيء الذي ينبغي معه الإنصات، بقلب مفتوح وعقل يقظ، إلى الوقع الذي خلفته استقالته، كأول سابقة يثيرها مجرد مسؤول في منظمة مدنية غير حكومية.
لقد كانت هذه الورقة “المدنية” العابرة والعرضية فزاعة ايجابية تجاه كل الغيورين على مصلحة الوطن، سواء داخل الدولة من خمائم؟ وفاعلين وحقوقيين وسياسيين؛ وفي نفس الوقت كنت واعيا أن المنوزي، ابن العائلة المكلومة وصديق كل المكلومين، لن يسمح أو يتخلى، في نصف الطريق، عن معالجة وتصفية “تركة” رفيقيه المرحوم إدريس بنزكري ومحمد الصبار. لقد كانت رسالته إلى المكتب التنفيذي للمنتدى، التي يشعر بمقتضاها رفاقه باستئنافه لنشاطه كرئيس استجابة لمناشدة الرفاق والحلفاء والضحايا وحراس الوطن النبلاء، إشارة بليغة على قوة الملف الحقوقي، كجسر للانتقال المعاق (أو لتجاوز الانتقال المعاق)، خاصة بعد أن تم العدول عن هذه الاستقالة، بكل فضيلة وتعقل، في نفس اليوم التاريخي الذي دأب فيه المغاربة على تخليد ذكرى اختطاف المهدي بنبركة والحسين المنوزي، الأول من باريس التي تشهد بداية عهد الأنوار الجديد، والثاني من تونس التي تعيش لحظات ديمقراطية بنكهة خاصة. وقد تعزز هذا البعد الرمزي بتتويج الانبلاج حول الحقيقة والإنصاف بالمسيرة الوطنية الحقوقية تحت شعار “ضد الإفلات من العقاب”، انسجاما مع المقتضيات الدستورية الجديدة التي تربط كل ممارسة ومسؤولية بالمحاسبة والمساءلة.
هنيئا للمبادرتين معا: الاستقالة التي دقت ناقوس الخطر لدى من يهمهم الأمر، ثم العدول عنها كسلوك متحضر وواع، يرد الاعتبار لجدوى العمل الحقوقي، ويكرس قيمته في سياق الحوار من أجل إعداد استراتيجية وطنية لمناهضة الإفلات من العقاب، في ظل الشفافية والوضوح وهي العبرة والحكمة التي استقيتها من صراحة مصطفى المنوزي الذي لم يخف “تواصله” مع الجميع بما فيهم الدولة، على عكس ما عودنا عليه “زعماؤنا” الذين يعملون في الظل، لكن في خفاء سلبي غير معلن.