بقلم: د.حبيب عنون، باحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية
لم يكن من الغريب أن يسدل الستار على الحوار الاجتماعي بين الفعاليات الحكومية وتلك النقابية المصطلح بتلقيبها عوجا وبدون مرجعية قانونية، بالأكثر تمثيلية، على إيقاع انتكاسة كانت مرتقبة ومحكمة زمنيا عقب افتتاحه خلال الموسم الحالي أياما معدودات قبيل افتتاح السنة التشريعية وبعدها الشروع في إعداد قانون المالية. قد تعتقد هذه النقابات أن الانسحاب من الحوار سيزكي مكانتها لذا المواطن وأن بسلوكها هذا ستلقي بمسؤولية الاحتقان الاجتماعي على الحكومة كما صرحت إحدى ممثلات المركزيات النقابية خلال برنامج تلفزي بكون مضمون الحوار لم يكن سوى سعي الحكومة اتجاه “مغازلة” النقابات قصد “تمرير المرحلة”. لم المغازلة والكل بات في نظر المواطن “كيف كيف” على نحو المقايضة. ما يومن به المواطن يكمن في عكسية هذا التصريح العبثي وما شابهه من تصريحات نقابات مماثلة المتباهية بتلقيبها بالأكثر ثمتيلية وما هي في واقع الأمر كذلك. والقول السديد الحق هو كون المواطن المغربي شاهد على كون هذه النقابات هي من غازل بالأمس ويحاول حاليا مغازلة حكومة تعتقد بكونها حكومة ابن كيران ولكنها ليست كذلك لكونها حكومة إئتلاف حكومي والتي هي موالية لبعض فعالياته.
على أية حال وكيفما كانت التركيبة الحكومية المعهد إليها تدبير الشأن العام فأدبيات وأخلاقيات الحوار بين الفاعلين الحكوميين والنقابيين لا يجب أن يسدل على إيقاع غير حضاري. فالحوار هو أخذ وعطاء وتعاطي مع الأولويات وفق أجندة رغب الائتلاف الحكومي القائم في مأسسته وليس بعرض تراكمات تستغلها عوجا وعبثا متى رغب المشهد النقابي في عرقلة الحوار متناسية أن هذه التراكمات لم تكن قائمة لو لا التغاضي النقابي عنها والمساومات والمقايضة البخسة بشأنها في السابق. مقايضة السلم الاجتماعي أو الهدنة المؤقتة مقابل مكتسبات لا تهم المواطن ولكنها مقتصرة على أعضاء المكاتب النقابية. وهذا أمر بات مألوفا ومن يجادل في حقيقته لا يؤكد سوى نفاق مضمون الخطاب النقابي القائم والمتآكل.
أعتقد أن هذا السبيل الحضاري في الحوار يبقى نظريا أما ما كان قائما فوجب الاعتراف بكونه كان مجرد توافق مصلحي لتحقيق أغراض شخصية محضة باتت جلية النتائج جاعلة من المواطن المغربي في مرحلة بدأت في التراجع من خلال النفور من الانتماء إلى المشهد النقابي مجرد “دمية للتصفيق” ومجرد إسم أو رقم على قائمة للتباهي النقابي بنسبة المنخرطين. وما هذه النسب كذلك لأنه من الأكيد أنه لو تم تحيين هذه اللوائح لاقتصرت على الأسماء المشكلة للمكاتب النقابية وثلة من التابعين. ربما اعتقدت هذه النقابات بالنظر لمجريات الأحداث أن هذه الحكومة مقبلة على تعديلات وبالتالي وجب انتظار الفعاليات الجديدة – القديمة التي تحسن ضبط الحوار وفق منهجية “السن يضحك للسن والقلب فيه اخديعة”. إذا كانت بعض الأحزاب السياسية تعرف ربيعا خجولا بل لكونه غير مرض لسطحيته فالمواطن المغربي ألف هذه الضوضاء المصطنعة قبيل “العرس الديمقراطي” وما هو بديمقراطي إن هو إلا استبدال لمقعد بمقعد أما الشخص فيبقى نفسه مهما اختلفت هيأته وملامحه وحتى إذا ما استبدل الشخص فلن يتولى المقعد سوى قرينه. والغريب كون ربيع التغيير لم يمسس بعد الفعاليات النقابية والتي باتت جاثمة لا هي فالحة ولا راغبة في تجديد نخبها ولا هياكلها ولا خطابها التواصلي مع المواطن ولا منهجيتها في حوارها مع الفعاليات الحكومية.
لا أدري ما المغزى من “قلب الطاولة” خلال الحوار الاجتماعي في حين أنه في واقع الأمر “قلب الطاولة” على ملفات مطلبية للطبقة المنتجة لثروات البلاد والواهبة أصواتها لنخب آملة منها كل الآمال المشروعة لضمان العيش الكريم ولضمان استفادتها من ما تنتجه من ثروات لتصدم في مرحلة موالية أن تلك النخب لم تتألق سوى في تمرير الوهم والأساطير من خلال خطابات وشعارات واجهتها النضال وعمقها الاستغفال والحقد والميز . لقد هوى لا الفكر ولا الفعل النقابي ولم يتبق منهما سوى التأكيد على كونها مجرد أذناب ودمى بين أيدي فعاليات حزبية تحتضر لا يعد لها وزن ضمن فعاليات الشارع المغربي. والاستغراب كل الاستغراب عندما يصرح السيد ابن كيران بعدم فهمه لاستمرارية حركية الشارع المغربي في حين أن الجواب بين ويعلمه لكونك يا فخامة الرئيس وعدت وأخلفت الوعد والموعد. ومن وعدتهم بالاستجابة لمتطلباتهم من خلال الحوار هم من في الشارع تعبيرا عن نبذ حكومتكم لهم وانحيازكم للسلم الحكومي من خلال تفضيلكم للاستمرارية في التحاور مع تمثيليات متجاوزة والتي لم تجازيكم سوى ب”قلب الطاولة”. مع التذكير أن هذا الانحياز قصد الحفاظ على التموقع ضمن الفعاليات المدبرة هو منافي لمتطلبات المواطن المغربي وبالتالي لمقتضيات دستور 2011. فوضعية المواطن المغربي باتت جلية أمام حكومة التناقضات والصراعات الحزبية المؤججة والمدعمة من طرف النقابات الموالية لها والسلبي في هذا المنحى يكمن في انتقال الصراع قصد عرقلة العمل التشريعي وبالتالي قد يصعب الحديث عن إمكانية الهيكلة الحكومية الحالية في ضمان التنزيل القويم للدستور. فسلك هذا المنحى الرامي إلى التمسك باتلاف حكومي هش مستندا إلى فعالية نقابية مثيلة قد يترجم ليس فقط ب “قلب الطاولة” من طرف النقابات على الحكومة بل قد تقلب الطاولة على حكومة السيد ابن كيران من طرف الشارع المغربي. فإذا كان فخامة الرئيس مرتاح وفخور بنجاحه في إيصال ثلة من الدعويين تحولوا إلى تشكيل حزب سياسي إلى اقتحام المشهد السياسي المغربي (وهذا أقصى ما يمكن أن يقوم به)، فهذا ليس بفلاح وإنما استغفال للمواطن المغربي واستغلال لحراكه وللظرفية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجهوية. وإذا كان هذا التوجه هو فعلا مبتغاكم فإنكم لم تفلحوا فخامة الرئيس إلا في جعل المواطن المغربي “مختبرا” لتجربة حكومية دون أفق إيجابي جلي المعالم ودون انعكاسات آنية إيجابية ملموسة على المستوى المعاشي للمواطن.
تشابكت الحقائق والمفاهيم حين باتت تتعالى عدة أصوات مدعية بكون المجتمع المغربي يعرف تراجعا في المكتتسبات والتأكيد على وجود نوع من التخوفات كما تم التصريح بذلك من طرف المتدخلات من تونس ومصر واستاذ العلوم الاجتماعية الذي جعل من الاعتقال “السياسي” مفخرة بضمه لسيرته الذاتية كما لو أن الاعتقال السياسي بات “أصلا تجاريا”. هنا وجبت بعض التوضيحات:
أولا: إذا كان البعض يستغرب لكون الاعتقال السياسي قد بات “أصلا تجاريا” فذلك لسوء فهمه لمبادرة المصالحة الوطنية والانصاف التي قامت بجبر الضرر من خلال تعويضات مالية ومعنوية لمن سبق وعانق الاعتقال السياسي. إلا أنه وجب على أستاذ العلوم الاجتماعية أن يعي ويزن حق وزنه وبعده هدف المصالحة لكونه، وهو يعلم ذلك، أنه وآخرون اعتقلوا لكونهم كانوا ضد النظام القائم وكانوا متبنين أو متجرجرين وراء أفكار تيارات فكرية اتضح لهم وللعالم أنها لم تصمد. والتساؤل المطروح يا أستاذ أنه إذا تمت المصالحة على النحو الذي تمت عليه، فماذا جنى المواطن الذي ظل متمسكا بالعرش العلوي المجيد وبالملكية وإمارة المؤمنين وبصحراءه ؟ ماذا جنى ذاك المعتقل سابقا في سجون أعداء الوطن وخصوصا جبهة البوليسارية والذين لا يزالون معتصمين أمام قبة البرلمان ؟ من أحق بالتعويض يا أستاذ ؟ الم يكن تمتيعكم بالحرية أغلى من التعويضات في وقت مددت فيه أيديكم لمن كان يريد العبث بالنظام القائم ؟ لم لم تفضلوا الحرية عن التعويضات المالية والمطالبة بتوجيهها للصالح العام ؟ لم لم تشكلوا جمعية تآزرية ماديا ومعنويا مع ضحايا الأسر والدفاع عن وحدة البلاد؟ أعتقد أن ذووا المبادئ الوطنية الحرة المغربية سيفضلون الصالح العام عوض الصالح الشخصي. نعم لحرية الرأي ولكن نعم ايضا لمراجعة الرأي مقابل الحرية ذلك أن المال يفسخ جدية ومرونة المبادئ.
ثانيا: عن أية تراجعات وتخويفات يتحدثون النشطاء المغاربيين ؟ هل بصعود التيارات الاسلامية لتدبير الشأن العام؟ أعتقد أن الأمر جد عاد لكون من ترك مكانه فارغا لابد من أن يستغل من طرف فاعل آخر لكي لا يبقى شاغرا وتضمن سيرورة تدبير المرفق العمومي. كما أن هذه التيارات هي أكثر تشردما وتناقضا فيما بينها شأنها في ذلك شأن التيارات اليسارية والليبرالية المتواجدة. وبالتالي فالتكتل والتناوب على أسس ديمقراطية فعلية نابعة من إرادة المواطنين هي المسار القويم المتبقي وهو السبيل الواقعي لضمان سلم اجتماعي ونمو اقتصادي.
مجانب للصواب من ادعى أنه ابتكر فكرا أو نموذجا سياسيا واقتصاديا وقانونيا ليتم التراجع عنه بعد تبنيه ويصيح بأنه ثمة تراجع. فالتاريخ شاهد على التطور السياسي والاقتصادي في المغرب ذلك أن المغرب عايش مرحلة ما قبل الاستعمار في ظل العرش العلوي وفي ظل نمط سياسي واقتصادي خاص به ليخوض بعد ذلك مرحلة الاستعمار وما قدمه المغاربة من شهداء في سبيل تحرير البلاد وعودة الشرعية للبلاد المتجسدة في رجوع المغفور له جلالة الملك محمد الخامس ضمن أوفياءه وإجلاء الاستعمار, وهنا يكمن التوضيح أنه خلال هذه المرحلة ورث المغرب تيارات فكرية منها ما هو غربي ومنها ما هو اشتراكي ومنها ما هو مزيج بين هذين النمطين من تدبير شؤون البلاد إلا أنه وجب التوضيح على كون أن كل الأنماط المراد ترسيخها في البلاد آنذاك لم تكن بمغربية الأسس والمصدر ولكن كانت أنماطا مستوردة وأنماطا تم ترسيخ بذورها في ذهن البعض خلال حقبة الاستعمار وبالتالي ومنذ تلك الحقبة لا تيار في المغرب يمكن التباهي بكونه قد أبدع فكرا أو نموذجا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا منبثقا من خصوصيات المغرب وعليه لا يحق لأي تيار أن يدعي بكون المغرب قد تراجع عن مكتسبات في مجال ما إذ ما يصح قوله أنه ربما تم التراجع عن أفكار شرقية أو غربية مقتبسة ومستوحاة من الخارج. كما أنه إذا تم اختيار الليبرالية كنموذج سياسي واقتصادي فعدم تفعيلها بمشمل مقتضياتها على الوجه الذي به تفعيلها في مصدرها هي من أدى إلى نوع من تحريف المفهوم الحقيقي للمصطلحات المؤسسة لهذا النموذج وبالتالي كانت النتيجة تعثرا في التدبير وفي الأهداف المتوخاة بلوغها مقارنة مع مصدر النموذج اليبرالي وبالتالي كانت النتائج سياسيا واقتصاديا واجتماعيا دون مستوى ما يطمح بلوغه المواطن المغربي. وقد يتم تعليل هذا الحراك الشعبي بدعوة إلى تحرير الفكر المغربي مما قد سلف تبنيه ودعوته خصوصا لثورة الفكر المغربي قصد الاجتهاد والتفكير والابداع لنمط سياسي واقتصادي واجتماعي مغربي الأسس ومغربي الأهداف والتوجهات. صحيح أنه ثمة أزمة سياسية بقناع وخطاب اقتصادي ولكنها في الأصل هي أزمة فكر وإبداع. ففاقد الشيء لا يمكنه أن يعطيه.