كان بودي ألا أساهم في إعطاء مصداقية لنقاش مغلوط حتى لا أساهم في الترويج لطروحات مناهضة لاستقرار المغرب، ولكن الدعوة الفجة للبلانكيين الجدد لا يمكن أن تمر دون أن يسجل الإنسان موقفا، خصوصا وأن الأمر يتعلق بدور مؤسسة دستورية محورية يريد لها أن تتراجع إلى الخلف في غياب الشروط الموضوعية الضامنة لاستمرار الدولة المغربية.
منذ مدة، أي منذ ارتباطه بمشروع بلانكي صغير يتصور أحدهم أنه في غياب الجماهير وفي غفلة من الشعب يمكن لـ”جورنالجي” وبعض مثقفي النكسة أن يقلبوا الأوضاع في البلاد من خلال تصويب لغوهم نحو مؤسسة دستورية محورية.
بعد حصوله على الاستقلال، عاش المغرب لسنوات وهو يحلم ببناء الدولة الوطنية التي كانت شعارا مشتركا لكل الشعوب الحديثة العهد بالاستقلال، فبناء الدولة الوطنية لم يكن ليتأتى بعلم ونشيد وطني وجواز سفر، فكان لا بد من بناء مؤسسات حديثة مسيرة أساسا بأطر وطنية، لأن كل المؤسسات كانت نواتها المسيرة مكونة من أطر أجنبية. هذا التحدي تطلب من المغرب أكثر من خمسة عشر سنة، أستطاع فيها المغرب أن يعيد بناء آليات السيادة في أكثر من قطاع وفي مقدمتها الإدارة العمومية في القطاعات المنتجة للتنمية والتحديث.
بناء إدارة حديثة لم يكن غاية في حد ذاته بل كان وسيلة من أجل جعل القطاع العمومي أداة للتنمية وخلق الشروط الضرورية لاقتصاد متطور مرتكز أساسا على الفلاحة التصديرية، في الوقت الذي كانت أصوات ترتفع هنا وهناك من أجل دخول المغرب في الصناعة الثقيلة والترميز لذلك من خلال بناء مصانع الصلب والحديد، كما حدث في الجزائر التي عاشت تحت زعيق الثورة الزراعية، وبعد 50 عاما من الاستقلال وجدت نفسها دولة تصدر البترول وتستورد كل شيء. اختار المغرب أن يبني السدود ويدعم الصناعة الغذائية والزراعة التصديرية، وبعد خمسين عاما من الإستقلال، ورغم كل ما يقال حول القدرة الشرائية للمواطن البسيط، فكل الدروب العتيقة تجد مبتغاها لدى طوابير باعة المنتوج المغربي.
تحدي بناء الدولة الوطنية لم يقف عند بناء الإدارة وآليات السيادة الأخرى، بل أخد بعدا آخر من خلال استعادة الرأسمال المغربي لوحدات الإنتاج مما مكن من خلق ظروف نشأة طبقة وسطى مرتبطة بالاقتصاد التصديري وإعطاء دفعة للصناعة الغذائية لتحقيق الاكتفاء الذاتي في ما يتعلق بالمواد الأساسية الأكثر استهلاكا، وفي مقدمتها مادة السكر حتى لا يبقى المغرب حبيس سياسة استيراد مادة أساسية منتجة من لدن بلدان كان لها موقف مناهض لوحدته الترابية.
تعبئة الرأسمال الوطني من أجل الاستمرار في القطاعات الإستراتيجية لم يكن قرارا لا وطنيا، بل كان قرارا وطنيا يسعى إلى تطوير مناعة الاقتصاد الوطني وتقليص التبعية للاقتصاديات الأجنبية وخلق ثروة وطنية، فالرأسمال الوطني وطني أيا كان من يملكه فهو يخلق الثروة داخل البلاد، يخلق الشغل داخل البلاد وهو رأسمال مواطن يؤدي الضرائب. وإذا رجعنا إلى المداخيل الضريبية في المغرب التي تشكل 90 في المائة من المداخيل ،فإننا نجد أن الشركات الكبرى التي تم خلقها في إطار تمنيع الاقتصاد الوطني في مرحلة السبعينيات هي التي توفر مداخيل الميزانية العامة، وتوفر للدولة المغربية ميزانية قارة يتم استثمارها في شق الطرقات وبناء المدارس والمستشفيات والتعليم والاستثمار فيها لم يكن إلا مجازفة بالمقارنة مع الذين يستثمرون اليوم في العقار وغيره من القطاعات التي توفر ربحا سريعا في حدود 40 في المائة، أو أكثر مقارنة مع الاستثمار في الصناعة الغذائية وغيرها الشيء الذي يحقق هامش ربح لا يتجاوز 10 أو 12 في المائة على أكثر تقدير.
الدولة الوطنية لا تتحقق بعلم ونشيد وطني، بل باقتصاد وطني يخلق الثروة ويوفر مدخولا ضريبيا قارا للدولة الوطنية، فهناك كثير من البلدان التي لا تعني فيها الدولة الوطنية إلا علما يرفرف في المطار وعلى بعد أقل من 70 كلم من المطار تغيب كل مظاهر الانتماء إلى الدولة ولا يعرف الناس حتى رئيس دولتهم.
الأقلية البلانكية تقول اليوم أن الملكية مكلفة بحكم الميزانية المخصصة للمصالح الإدارية للديوان الملكي حيث رئاسة الدولة.
فلا يوجد رئيس دولة في العالم يشغل مصالح دولته بدون ميزانية، أما المغرب فقد فضل أن تكون الميزانية ومخصصات السيادة واضحة على أن يحدو حذو الدولة التي تلجأ إلى نظام طواقم الموظفين الملحقين من مختلف مصالح الدولة ويتقاضون أجورهم من الوزارات والمصالح الأصلية وليس من مخصصات رئاسة الدولة. إنه اختيار الوضوح عوض اللعب على لغة الأرقام.
إن الملكية الفاعلة لا تستمد ديناميتها من فصول الدستور بل من الفعل على الأرض من خلال خلق الثروة وتطوير الاقتصاد الوطني واستدرار الاستثمار وفق الاحتياجات الوطنية، مثل ما حدث مع قطاعات الصناعة الثقيلة من خلال مصانع “رونو” في طنجة أو قطاعات الإنتاج المرتبطة بالطيران.
فالملكية الفاعلة المهووسة بتطوير المغرب وتمنيع أدائه الاقتصادي هي التي عملت كل ما في وسعها من أجل تطوير التعاون مع دول الخليج وجلب ملايير الدولارات كمساعدات أو استثمارات من الصناديق السيادية لدول الخليج بضمانة من الملكية الفاعلة.
فالملكية المنتجة المساهمة في خلق الثروة الوطنية كاستثمار وطني تتحرك كملكية فاعلة على الأرض من أجل متابعة كل الأوراش الكبرى في كل مكان ودفع كل المتدخلين من أجل تسريع وثيرة الإنجاز ومراقبة الحكامة الجيدة إلى جانب المؤسسات الدستورية الكبرى.
لغو البلانكيين الجدد غير المنتجين، الذين سيروا مقاولات صغيرة غير مواطنة قادوها إلى الإفلاس، يظنون أن ” أوروات بوب” والذين وراءه دائمة، وأنها ستوفر الاستمرار لمشروع لا ينتج إلا هراء الكلمات. والإفلاس النهائي لمشروع البلانكيين الجدد آت لا ريب فيه.
أكورا بريس: حمو أوليزيد