فيديو: رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي يلتقي عددا من كبار المسؤولين المغاربة
بقلم سعيد ودغيري حسني
وأنا أتجول في شوارع مدن عدة على امتداد جغرافيا هذا الزمن قلّما صادفت مكتبة. وإن صادفتها وجذبني عنوان ما وجدت صاحب المحل مطأطئ الرأس غارقًا في القراءة، كمن يحرس آخر قلاع الحكمة وسط عالم يتآكل ببطء. سألته ذات يوم: “لِمَ لا تغيّر مهنتك ومكتبتك وسط الشارع لا تكاد تبيع شيئًا؟” فابتسم ابتسامة محب ومشفق، وقال: “الربان آخر من يغادر السفينة، سيدي، والأمل ما زال يسكن هذه الأرواح”، ثم أشار إلى العناوين التي تراصّت كجنود على رفوف الزمن صامدةً رغم هبوب العواصف.
الكاتب… المسافر وحيدًا في بحر الكلمات
الكتابة ليست ترفًا، بل عبءٌ ثقيل ورسالة لا يُكافَأ صاحبها إلا بمزيد من الوحدة. الكاتب يشعل لياليه بالحروف، ويحرق روحه في سطور لا يدري إن كانت ستُقرأ أم ستضيع في دهاليز النسيان. يخطّ أفكاره كمن ينثر بذورًا في أرضٍ قاحلة منتظرًا معجزة المطر. أما الناشر فهو التاجر الذي يقف عند بوابة السوق موزعًا نظراته بين دفتي الكتاب وأرقام المبيعات، بين شغف الثقافة وقوانين الربح والخسارة. في زمن صار فيه “البيست سيلر” كتابًا عن وصفات الطعام أو أسرار النجاح السريع يجد الكاتب الحقيقي نفسه عالقًا بين حروفه وبين واقع يخذله.
أزمة النشر: حين يصير الورق حلمًا باهظًا
لم يعد النشر مجرد طباعة ورق وتجليده بل معركةٌ مع الأرقام والتكاليف، مع قراء باتوا يفضلون الشاشات على الصفحات ومع دور نشر تخشى المغامرة بأقلام غير مألوفة. تضاعفت أسعار الطباعة وقلّ الإقبال على شراء الكتب، فبات الكاتب يُجبر على تمويل طباعة أعماله، أو يضطر لقصّ أجنحة نصوصه لتلائم مقاييس السوق. في زمن غلبت فيه الصورة على الكلمة وصارت المعرفة وجبات سريعة تلتهم دون تذوق، تقف دور النشر على حافة المجهول، متسائلةً: هل ما زال للكتاب مكان في هذا العصر؟
وزارة الثقافة… يدٌ تمتد وسط العتمة
ورغم هذه الأزمات، تحاول وزارة الثقافة أن تمدّ جسور الدعم، علّها تنقذ ما تبقى من هذا العالم الورقي في عام 2024، رُصدت ميزانية تقارب 9 ملايين درهم لدعم 412 مشروعًا في مجال النشر، تشمل طباعة الكتب، والمجلات الثقافية والمشاركة في المعارض الدولية. كما أطلقت الوزارة برامج استثنائية خلال جائحة كوفيد-19 لدعم الناشرين والمؤلفين الذين وجدوا أنفسهم عالقين في طوفان الأزمات الاقتصادية. هذه الجهود، رغم أهميتها، تظل قطرةً في بحر يحتاج إلى مدٍّ ثقافي أوسع وسياسات تضمن للكتاب مكانته كركن أساسي في بناء الوعي.
معارض الكتاب… عندما تصير الثقافة مهرجانًا مؤقتًا
لا تزال معارض الكتاب بمثابة الاحتفالات الأخيرة التي تجمع الكتاب والناشرين والقراء في عرس ثقافي عابر. من معرض الدار البيضاء، إلى معارض القاهرة وبيروت والشارقة، تظل هذه الفعاليات محطات تذكّر العالم بأن الكتاب لم يمت بعد. لكنها للأسف مجرد مواسم، تنطفئ أضواؤها سريعًا، ويعود بعدها الناشر إلى كآبته والكاتب إلى عزلته، والمكتبات إلى خوائها.
زبدة القول… هل نترك السفينة تغرق؟
النشر ليس مجرد تجارة، والقراءة ليست ترفًا، والكتاب ليس مجرد ورق وحبر بل هو شجرة تنبت من الحروف، وتمتد جذورها في أعماق الوعي. في زمن تزداد فيه الشاشات سطوعًا، والكتب بهتانًا يبقى السؤال: هل سيستعيد الكتاب مجده، أم أننا على وشك أن نصبح آخر الربابنة الذين يرفضون مغادرة السفينة؟ الجواب ليس عند الناشرين وحدهم بل عند كل قارئ عند كل روح تؤمن أن الكلمات تظل أسمى من أن تُنسى.