بقلم: نور الدين اليزيد
لا شك أن كل شعوب العالم تريد أن تحيى بكرامة وعزة نفس، وأن تتوفر لديها الإمكانيات اللائقة للتعبير عن كينونتها الإنسانية، وعن مواطنتها المستمدة من العقد الاجتماعي الموقع ضمنا أو واقعا مع حكامها؛ وهذا ما يعتبر بكل تأكيد من صلب السياسات العامة للدول وكل الأنظمة السياسية.
وببلادنا وبالرغم من كل الجهود التي تقوم بها السلطات العليا -ولنقلْها بصراحة ولا حرج- رغم كل الجهود التي قام ويقوم بها جلالة الملك محمد السادس، منذ اعتلائه عرش أسلافه الميامين، من خلال إشراف جلالته شخصيا وميدانيا على العديد من المشاريع التنموية، ولاسيما منذ إطلاق جلالته للمبادرة الطموحة (المبادرة الوطنية للتنمية البشرية) في سنة 2005، إلا أن كل هذه المجهودات بقيت غير كافية لتتبوأ بلادنا المكانة التي تليق بأمة وشعب له تاريخ عريق كالشعب المغربي؛ بحيث استمرت مؤشرات التنمية العالمية، وكذا بعض الجهات الوطنية ذات الاختصاص، في تصنيف بلادنا ضمن الأوطان التي ما تزال التنمية بها يعتريها نقص وخصاص، وهو ما يدعو إلى مساءلة الساهرين على التدبير العمومي من سياسيين ومسؤولين.
آخر هذه المؤشرات والدراسات جاءت من بين ظهرانينا، وصادرة عن مؤسسة عمومية هي المندوبية السامية للتخطيط، حول “الرفاهية”، والتي بحسب خبراء هذه المؤسسة، فإن 53 بالمائة من السكان يعتبرون أن مساكنهم قديمة أو غير لائقة، وأن 9 أشخاص من أصل 10 لا يتوفرون في العالم القروي على قنوات الصرف الصحي، بينما 8 أشخاص من أصل 9 لا يستفيدون من جمع النفايات، و80 بالمائة يعتبرون تكاليف العلاج والتطبيب مرتفعة، و74.4 بالمائة يقرون بوجود فوارق اجتماعية، و64 بالمائة يعتبرون دخلهم غير كاف، و33 بالمائة يقترضون فقط ليؤدون ما بذمتهم من التزامات مالية.
ومن غريب الصدف أن تخرج هذه الأرقام متزامنة مع دراسة صادرة عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي جاءت مضمنة في التقرير السنوي الذي أصدره المجلس، والذي دعا المسؤولين إلى ضرورة اتخاذ عدد من التدابير الإستباقية من أجل تجنب “أزمة حادة”، على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، مؤكدا على أن الحالة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية ببلادنا، وإن كانت بها نقاط قوة وتقدم إلا أنها ما تزال تعتريها نقاط “تستدعي اليقظة”٬ والتي “تهدد بطرح مشاكل مرتبطة بالنمو المستقبلي للبلاد والتماسك الاجتماعي٬ في حال عدم أخذها بعين الاعتبار في وقت مبكر”.
هذا التشخيص العلمي والموضوعي والجريء الذي قدمه خبراء مؤسستين عموميتين يُشهد لهما بالنزاهة العلمية والأخلاقية والتجرد من أية خلفية سياسية أو غيرها، تدعو الجميع إلى التحلي بروح المسؤولية، من منطلق كلنا في خندق واحد، من أجل الانخراط الفعلي واللامشروط، والبعيد كل البعد عن أية حسابات سياسوية مرتبطة بهذا الاستحقاق الانتخابي أو ذاك، في العمل على تحقيق تنمية مستدامة تضع نصب أعينها توفير العيش الكريم للإنسان المغربي؛
وكم يعز على المرء فعلا أن يسمع، في بلاد يؤمن شعبها بالتضامن الاجتماعي كخصلة ثقافية ودينية متجذرة في ذاكرته، بأن 80 بالمائة من سكان هذه البلاد يعتبرون أن تكاليف العلاج مرتفعة، ما يعني حتما أن لا مجال للحديث عن مجانية العلاج، الذي ينبغي أن يتوفر لدى المغاربة، وهو الحق الذي يكفله بالإضافة إلى الواجب الديني، النص الدستوري أيضا؛ بحيث ينص الفصل 31 من الدستور الذي صوت عليه المغاربة بشبه إجماع في السنة الماضية، على أنه “تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات، على قدم المساواة، من الحق في العلاج والعناية الصحية والحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، والتضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة”.
إن تجنب “أزمة حادة” كما وصلت إلى ذلك قناعة خبراء من مختلف المشارب والتخصصات، لن يكون بحلول ترقيعية وآنية، ولا بمهدئات تلبس لبوس شعارات سرعان ما يختفي بريقها بمجرد مرور استحقاق انتخابي، ولكن الوصفة العلاجية الملائمة لأي عطب اجتماعي واقتصادي، يبدأ أولا بالتشخيص الصحيح والدقيق للداء –وقد أهدته لنا المؤسستان المذكورتان- ويبقى فقط البحث عن العلاج الذي ينبغي أن يكون من لدن مُعالج أمين وصادق يقدر حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه؛ إنه هذا السياسي وذاك المسؤول اللذان ينبغي لهما التخلص من النزعة الضيقة للمصالح الشخصية، والتفرغ لخدمة الصالح العام، وقتئذ يمكننا أن نحقق “الرفاهية” الاجتماعية والاقتصادية التي يصبو إليها الجميع.