بقلم: الأستاذ حسن خطابي، أستاذ القانون العـام
يكون شعب المغرب أمة عريقة ذات جذور ممتدة في عمق التاريخ. فقبل القرطاجيين والرومان والوندال والبيزنطيين، كان المغرب موطن إنسان ما قبل التاريخ الذي ترك آثاره مرسومة على صخور جبال الأطلس. والمغرب كدولة نتاج إسلامي نشأت سنة 788 م، ففي وليلي تم إعلان إدريس الأول ملكا من طرف قبائل أمازيغية على أساس البيعة باعتبارها عقدا مبرما بين الملك وبين الرعية، يتعهد فيه الملك بأن يتولى شؤون الأمة ويرعى مصالحها، وتتعهد فيه الأمة بالسمع والطاعة، حيث يعتبر هذا العقد مصدر شرعية حكم الملك. والبيعة هي ما يميز الدولة المغربية عن باقي الدول الإسلامية الأخرى، بل إنها لم تكتف بالبيعة الشفوية، حيث لم يثبت قط في تاريخ المغرب أن وقعت بيعة شفوية بل كانت دائما البيعة مكتوبة، كما أن صياغتها عرفت تطورا يساير تطور الدولة المغربية . ومنذ 12 قرنا خلت حكمت المغرب عدة سلالات ملكية عرف خلالها أمجادا كما عرف نكسات، إنه تجذر في التاريخ نادرا ما تصادفه لدى الكثير من شعوب العالم.
دولة ملكية بهذا العمق التاريخي طبيعي أن تكرس طقوسا كغيرها من الملكيات العريقة في العالم، طقوس لا تتخذ كلها طابعا دينيا، حيث يكتسي بعضها طابع التقاليد الموروثة، وهو أمر لا ينفرد به المغرب وحده، بل نجده لدى الكثير من الدول، بما فيها تلك العريقة في الديمقراطية، ففي كثير من الدول التي تعيش في ظل أنظمة ملكية نجد أن الطقوس تشكل جزءا من تراثها. ففي بريطانيا مثلا نظم هذه السنة احتفال باليوبيل الماسي للملكة إليزابيث يؤرخ لهذه الطقوس، وأقيمت بالمناسبة عدة المعارض، منها التي تناولت سيرة الملكة منذ طفولتها، وأخرى عرضت صورا نادرة للملكة في قصرها في بالمورال، وصورا أخرى لها مع زوجها الأمير فيليب، بالإضافة إلى العروض الفريدة التي تقدمها المجموعة الملكية لمجوهرات الأسرة المالكة. وكانت مناسبة قدمت خلالها عدة برامج حول تاريخ القصور والمراسيم الملكية، حيث خصصت حلقات للحديث عن تاريخ كل قصر على حدة، من قصر باكنغهام إلى قلعة ويندسور وقصر هوليرود في أسكوتلندا.
هذه الطقوس تحمل دلالات ورموزا باعتبارها جزء من المؤسسة الملكية التاريخية، فهي تعبر عن تمثل المحكومين لطبيعة السلطة، وبالرغم من أن مثل هاته الطقوس تراجعت إلى حد ما في الأنظمة الملكية التي قطعت أشواطا بعيدة في الديمقراطية، إلا أنها ما تزال حاضرة في بعض المناسبات الوطنية. في المغرب هناك من ينتقد مثل هذه الطقوس باعتبارها تكتسي طابعا دينيا، معتبرين مسألة الانحناء ركوعا أو سجودا، في حين أن الأمر لا يعدو نوعا من الوقار والاحترام درج الناس على سلوكه مع بعض الأشخاص ذوي المكانة الخاصة، دون أن يكونوا بالضرورة ملوكا، مثل العلماء والشرفاء وشيوخ الزوايا بل وحتى زعماء بعض الأحزاب، لأن الركوع والسجود في الإسلام لا يجوز لغير الله عز وجل. لذا لا يستقيم تشبيه الانحناء احتراما للملك بالركوع والسجود لله، لأن هذه الطقوس لا علاقة لها بالدين، بقدر ما هي مرتبطة بالتقاليد والطقوس الخاصة بالمؤسسة الملكية، وهي طقوس نجدها حتى في أنظمة علمانية وغير إسلامية، مع بعض الاختلافات الناتجة عن اختلاف المجتمعات التي تمارس فيها، وهو ما نلاحظه في اليابان، حيث يوجد إمبراطور على رأس بلد ديمقراطي قطع أشواطا متقدمة في التحديث، ورغم ذلك لا تزال بعض الطقوس الإمبراطورية التقليدية العتيقة قائمة.
هناك من يرى أن إقامة النظام الديمقراطي في ظل الملكية يفرض العمل على التحرر النسبي من هذه الطقوس العتيقة، مثل تقبيل اليد، وهناك من دعا إلى فرض إلزامية عدم تقبيل يد الملك أسوة بما حدث في المملكة العربية السعودية التي أصدر فيها الملك عبد الله مرسوما يمنع بموجبه تقبيل يده. إلا أن هؤلاء يتناسون أن آل سعود لا ينتمون إلى آل البيت، وأن العادة جرت في المجتمعات الإسلامية التقليدية على تقبيل يد الشرفاء ولو لم يكونوا ملوكا. وهناك من دعا إلى ضرورة الإبقاء على هذه الطقوس، لأنها جزء من اشتغال المؤسسة الملكية . والواقع أن الملك ليس مسؤولا عن بعض الممارسات المبالغ فيها في تقبيل اليد والانحناء، ذلك أن بعض من يستقبلهم يعتبرون سلوكهم هذا دليل على الولاء لشخص الملك، وبالتالي فذلك يعكس طبيعة تصورهم الشخصي لمكانة المؤسسة الملكية، والدليل على ذلك أن البعض ممن يسلمون على الملك لا ينحنون ولا يقبلون يده، دون أن يثير ذلك أي رد فعل سلبي من طرف المحيط الملكي.
وقد كان هناك إجماع بين الأحزاب السياسية التي تعاملت مع اللجنة الاستشارية المكلفة بمراجعة الدستور على ترك هذا المجال الشكلي خارج التعديلات الجوهرية التي تمس الدستور، على اعتبار أن هذه الطقوس تخضع للأعراف والتقاليد لا إلى القوانين المكتوبة. وحصل شبه إجماع بينها على ضرورة إعادة تقييم هذه الأعراف بهدف تطوير الملكية شريطة ضمان الاحترام الواجب للملك. وفي هذا الصدد ظهر خلاف بين بعض الأحزاب السياسية بشأن هذا الموضوع، بين من تطالب بإلغاء فوري لهذه المظاهر، على اعتبار أنها طقوس مخزنية متجاوزة. وبين من تدعو إلى الحفاظ عليها باعتبارها مسألة اختيارية ليست لها قوة إلزامية، و أن لا أحد يرغم على احترامها. وهناك فريق ثالث طالب بإعطاء البروتوكول الملكي وضعه الاعتباري على أن يحظى بقبول الجميع، ويراعي مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان ومقومات الدولة الحديثة. على أن المواقف بشأن البروتوكولات الملكية تبقى مسألة شخصية يتم التعبير عنها، عادة، من طرف القيادات السياسية دون أن تصل إلى درجة بلورة موقف حزبي بشأنها، حيث أن الطابع الاختياري لهذه الطقوس يجعلها خارج صلب النقاش حول الإصلاحات السياسية المطروحة.
وقد طرحت مسألة الطقوس بشكل علني لأول مرة في عهد الوزير الأول الأسبق الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، وتزامن هذا الطرح مع اعتلاء الملك محمد السادس العرش نهاية التسعينات. حيث دعا عدد من الفاعلين السياسيين والمفكرين إلى تبسيط الإجراءات البروتوكولية المرتبطة بالمؤسسة الملكية، بما ينسجم مع دخول المغرب العهد الجديد وتبني الملك محمد السادس مفهوما جديدا للسلطة. وساد مع بداية هذا العهد تفاؤل لدى الطبقة السياسية والفكرية بقابلية واستعداد البلاط تجاوز بعض الطقوس المخزنية، بما ينسجم مع المرحلة السياسية الجديدة التي يعيشها المغرب، والمتميزة بتعميق الديمقراطية والتحديث، مما دفعها إلى الدعوة إلى نهج نوع من الليونة في ما تبقى من هذه الطقوس لتصبح أكثر بساطة، مؤكدين على أن المؤسسة الملكية المتجددة والمتطورة باستمرار في حاجة ماسة اليوم إلى بروتوكول أكثر مرونة. ورغم أن الكثير من ذلك تحقق، من الناحية العملية، إلا أن بعض الفاعلين السياسيين يلحون على إحداث قطيعة مع بعض التقاليد المخزنية، ومنها تقبيل اليد، من خلال إعلان رسمي. و في المقابل يعتبر بعض الفاعلين السياسيين أن الطقوس المخزنية ليست قضية آنية، وليست بالأهمية التي تفرض نقاشا مستفيضا ومتواصلا بشأنها، مؤكدين أن بعضا منها أصبحت أكثر ليونة، فمسألة تقبيل يد الملك مثلا أصبحت موكولة للمعني بتقبيل أو عدم تقبيل يد الملك. وبالتالي، فإن كل نقاش حولها أصبح بدون معنى.
وفي هذا السياق أثار حفل تقديم الولاء هذه السنة نقاشا بسبب عدم تنظيمه خلال الذكرى الثالثة عشرة لعيد العرش، التي تزامنت مع ذكرى وفاة الملك محمد الخامس في العاشر من رمضان، مما جعل البعض يفسر ذلك بإلغائه، خاصة وأن بلاغ وزارة القصور والتشريفات والأوسمة خلا من أي ذكر لحفل الولاء. وقد اختلفت وجهات النظر حوله بين من يدعو إلى إلغائه بمبرر أنه يكرس قيم العبودية وإذلال الكرامة الإنسانية، وبين من يرى فيه مناسبة لاحتفال واحتفاء المغاربة بملكهم إذا تم الكف عن النظر إليه من منطلق ديني، وعلى اعتبار أن الطقوس الملكية في المغرب موروث تاريخي ليست ملكا للملك وحده بل هي ملك لكل المغاربة ودليل على عراقة المجتمع المغربي .